الفن الإسلامي.. فن كثُر الإقبال عليه في الآونة الأخيرة و ترددت حوله الكثير من الآراء المبنية على أسس يقبلها المنطق و حجج لا أساس لها! فما بين دعاوي تشير إليه بالفن الشكلي/ الجمالي أو decorative إلى آراء أخرى تجزم بأنه فن روحاني؛ يحتار المتلقي لفهم سر هذا الفن في خضم هذا التناقض. خاصةً و أنه في الفترة الأخيرة قد أصبح مرجعاً لفناني البوب pop art و الإنستجرام . فمن سجادات متطائرة في كل محفل فني إلى زخارف هندسية بلا هدف، طغَت هذه الأمثلة مؤخراً على المشهد الفني بل أثّرت على فهم الناس لهذا الفن. فما سر هذه الظاهرة و هل تمتّ لجوهر الفن الإسلامي بأي صلة؟
يوسف و زليخة لكمال الدين بهزاد |
بداية عهدي بالفن الاسلامي كانت في لندن أثناء دراستي للماجستير في مدرسة الأمير تشارلز للفنون التقليدية. على الرغم من أني قد اخترت برنامج الماجستير لهذا التخصص تحديدا فإني وقتها لم أتعمق في فلسفة هذا الفن على قدر ما أقبلت على فكرة التمكن من إتقانه يدوياً. أخذت أترقّب المناظرات الشفهية التي كانت تأخذ مجراها في جامعتي بصمت، نادراً ما أشارك فيها لأني لم أكوّن وقتها منظور شامل يمكنني من المناظرة. بداية فهمي لهذا الفن ترجِع بالفضل إلى دراسة الفلسفة الخالدة perennial philosophy، الفلسفة التي ألهمت الكثير من مزاولي فن و عمارة العالم الاسلامي بشكل معاصر. يجب أن أشير هنا أن بداية استيعابي لحقيقة هذا التراث ترجع إلى أني لم أكن افهم شيئا من كم المصادر الهائل التي كان من المفترض علينا قراءتها وقت دراستي! شيئا فشيئا تبسطت أمامي الأمور واتضح لي بعد سنين من دراسة آراء باحثين و متخصصين في الفن الاسلامي أن المسألة ترجع إلى فريقين متناقضين: فريق يميل إلى تفسير الموروث الثقافي الإسلامي من وجهة نظر مدرسة الفلسفة الخالدة، و هو أمر قد يشعر فيه الشخص بالمبالغة في تأويل بعض الاشياء و المفاهيم بشكل لا يخلو من الإستشراق. و فريق في النقيض يتعامل مع الفن الإسلامي بالشكل الذي ورثناه من الأجيال السابقة كما رأيت شخصيا في بعض مدن المغرب و تركيا و مصر حيث لا تزال الكثير من المهن القديمة تُزاول كما كانت قديما. الإشكال في الفريق الثاني أنه يبدو و كأن الزمن قد توقف الى ما قبل الحداثة و غالبا ما يتم تأطيرنتاج هذا الفكر ضمن حدود الصنعة أو الحرفة التقليدية التي تصارع بشراسة لأن تجد لها من يقدرها في زمننا المعاصر. يعصى على الكثير من أصحاب هذا المنهج تطوير العمل الفني بما يتناسب مع وقتنا الحالي، بل أن يجد المتلقي فيه ما يلامس النفس و الروح بكل ما تعاصره من أحداث و أفكار عوضاً عن كونه عمل جمالي فقط. قد استثني هنا نماذج اتطلعتُ عليها في تركيا و إيران لأن فهمهم لموضوع الحرف يتسم بالنضج و الخبرة مقارنة بغيرهم من الدول.
ذلك لا يعني أن ما يمكن وصفه بالفن الإسلامي من حرف أو تحف أو عمارة هي محاولات خاوية المضمون، لكن بوسعنا أن نقول بأن معناها انقطع بانقطاع مزاوليها الأصليين و أنها اخذت أُطر العادات و التقاليد لا أكثر. و لا أُعمم على الكل فمن غير العدل تعميم هذا الفهم على شريحة كبيرة من مزاولي الحرف في العالم الاسلامي، و لكن معضلة فهم أصول الفنون الإسلامية معضلة حقيقية تحتاج إلى أن يسلّط الضوء على أبعادها الثقافية و التاريخية.
جامع الشيخ زايد بأبو ظبي. بناء حديث بعناصر مستعارة من أنحاء العالم الإسلامي. هل يمثل المسلم المعاصر؟ |
التنقل بين هذين الفريقين (الفلسفي و التقليدي) أشبه بالغوص في المناظرة الشهيرة التي أخذت مجراها بين الإمام الغزالي و ابن رشد في كتابي تهافت الفلاسفة و تهافت و التهافت. و التي كانت في فحواها جدل ما بين الفلسفة كما توارثها المسلمين و طوروها من بعد اليونانيين، و بيْن فهم حجة الإسلام للفلسفة من وجهة نظر الدين الإسلامي. و إن كان في ذلك التشبيه مبالغة فهو يخدم تباين النقيضين في تناولهما موضوع الفن الإسلامي. ذلك التناقض الذي يشعر فيه الباحث عن حقيقة هذا الفن بالضياع و الحيرة.
قد يأخذ البعض صف الفلسفة و البعض الآخر صف العادات و التقاليد، ما لا يكن إنكاره هو أن الوجهين جديران بالإحترام و في بعض الأحيان يمكننا أخذهما في واقعنا المعاصر سوياً فيما يتعلق بالفن و العمارة، أي أن الحقيقة قد تقع في الوسط بين الرأيين.
قادني ذلك إلى البحث عن طبيعة الفن الاسلامي و حقيقته، و هل مسمى الفن الإسلامي كما نعرفه في محله؟ أم أنه يمثل أيضا معتنقي الأديان الأخرى في البقَع التي نشأ منها؟ هل هو فن ديني أم جمالي بحت؟
كنيسة وانك بأصفهان، كنيسة تخص الأرمن من سكان أصفهان. تم بناؤها في العهد الصفوي. | |
لا أعتقد أن هنالك جواب مختصر لكم التساؤلات هذه. و لكن الأكيد أن الفن الإسلامي يشكل مظلة جامعة لكل الشعوب التي تأثرت و أثرت به، و أن منه ما كان يزيّن قصور الخلفاء و منه ما كان يثري تجارب خلوات المتصوفة!
لم يكن من الصعب التعمق في تاريخ هذا الفن بأنواعه، فالمصادر عن الفن الاسلامي و عمارته تتوافر بكثرة و في كل مكان. و لكن ما كان صعب بالنسبة لي هو ربط فهم هذا الفن بواقعنا من وجهة نظر محلية لا يغلب على فهمها الإستشراق. قد أتسامح مع فكرة تغريب هذا الفن إن كان ذلك من وجهة نظر أجنبية فذلك شأن أجنبي و لا يخصني. و في الحقيقة تاريخ الإستشراق تاريخ غني جداً، من غير المعقول أن ننفي إسهاماته المهمة في تدوين و دراسة تاريخ العرب و المسلمين بمنهجية دقيقة لا يمكن للباحثين أن يستغنوا عنها و لو اختلفوا مع مضامينها.
و لكن ما يثير ذهولي في كل مرة أقصد فيها معرض فني يهتم بالفن الإسلامي أو متحف فيه قسم لتك الفنون في عالمنا الحجازي والخليجي خاصةً هو فكرة تغريب هذا الفن تماما. بمعنى أن نتناول ذلك الفن بنفس منطق الغربي في تفسيره و تقديره. بل و حتى تقدير موضعه مقارنة بسائر الفنون الأخرى. ففي غالب الأمر تجتمع الكثير من الفنون التي تندرج تحت هذا الفن لتدخل في صبغة واحدة و هي "الفن الإسلامي" كما عرّفته لنا متاحف مثل اللوفر و المتحف البريطاني و غيرهم. في حين أن هذا الفن الإسلامي يضم صنوفاً عدة من المضامين منها المنمنمات؛ فارسية أو عربية أو هندية أو مغولية أو عثمانية كانت و لكل منها مدارس و بحور خاصة بها. و فنون الخزف بشتى أنواعها التي تختلف من منطقة الى أخرى في العالم الاسلامي بل من عائلة إلى الثانية حيث كانت العوائل التي تحترف الخزف تطوّر أصباغها الخاصة التي تزدهر ما دامت ممارَسة من قِبل العائلة و تندثر باندثارهم. و فنون الخشب المتمثلة في الرواشين كما في الحجاز و الشناشيل في العراق و المشربيات في مصر والشام ذلك و بالإضافة إلى فنون التوريق و التشجير في المغرب العربي؛ و الخط العربي سيّد الحرف و الفنون كلها بأشكاله المتعددة و الغير منقطعة الأصول بفضل إجازات ترجع في أصولها إلى سيدنا علي بن أبي طالب. في ذلك لمحة موجزة و ظالمة أيضا لمدى غنى العالم الاسلامي و العربي بالفن و الجمال. فهل من الإنصاف أن نرمي بذلك كله في خانة تختزل كل هذا التنوع تحت مسمى واحد ليسهل ربطه بمدارس الفن الغربي التي تختلف تماما في مضمونها عنه؛ و بذلك تلقائيا يتم إدراجه تحت خانة "الحرف و الفنون التقليدية"؟
و في منحى آخر فمن المحزن أن على المهتم بالفن في الوطن العربي أن يدرس عصر النهضة بتفاصيله و فناني المدارس التشكيلية المختلفة و رواد الفن الحديث و المعاصر وألا يأتي على الذكر على أياً من بهزاد و عثمان النقاش وعبدالله بخاري و عثمان حمدي بك مثلا أو أياً من روائع هذا الفن مثل مخطوطات مقامات الحريري و كليلة و دمنة و خماسية نظامي وفالنامة و المصحف الأزرق وغيرهم. تلك الأمثلة ليست أقل أهمية على الإطلاق و إن اختلفت بشكلها أو مضمونها عن المدارس الغربية للفن، فهي ناشئة من لب الثافة العربية و الإسلامية التي سواء شئنا أم أبينا نحن نستمد منها جذورنا الثقافية.
أتوقع إن كان هنالك فهم عميق للفنون "الاسلامية" و دراسة ضامنة لتاريخه لما رأينا الكثير من الأمثلة السائدة في الساحة الفنية المعاصرة. فمن المستحيل أن يتخيل أحد ولو كفكرة عابرة استخدام السجاد كعنصر جمالي لمضمون لا يمت إليه بصلة، متهاونا بثقل أحد أقدم الحرف في العالم و أبعادها الثقافية و التاريخية. و لا أعتقد أننا كنا قد رأينا رسائل تحتفل بعشيقة أحد الخطاطين في عيد الفالنتاين في أي معرض فني معاصرأو شهرزاد تسوق السيارة لأول مرة احتفالا بقرارسواقة المرأة على غرار أحد مخطوطات بهزاد!
و هنا استدلّ بقول المعماري الشهير حسن فتحي حين قال:
الثقافة عُرفت بأنها نتيجة تفاعل ذكاء الإنسان مع البيئة في استيفاء حاجاته المادية والروحية، وينطبق أكثر ما ينطبق صدق هذا التعريف على الفنون التشكيلية ومنها العمارة؛ لأنه ليس من المعقول أن يصور مصور سويسري لوحة بها جِمال ونخيل عن طبيعة بلاده، كما لا يمكن ولا يُعْقل أن يقوم مهندس معماري عربي ببناء شاليه سويسري في مصر أو الكويت، وبجواره نخيل وجمال، إنه يكون أمرًا مضحكًا كما هو في الأفلام الهزلية، ولكن للأسف هذا هو الحادث اليوم في كافة البلاد العربية، ليس ببناء شاليهات سويسرية في المنطقة العربية، وإنما ببناء عمارات أمريكية على الطراز الغربي الحديث الذي يتنافى مع طبيعة البلاد وأشكال الناس وملامحهم التي تصبح عندما نراهم بجوار تلك المباني كأشكال النخيل والجِمال بجوار الشاليه السويسري.
و على ذلك يمكننا أن نقيس وجود محاولات فنية لا تختلف عما وصفه فتحي، محاولات عبثية تجعل من ثراء تجربه الفن الإسلامي كما سبق و تناولناها أقصوصات خالية من المضمون و السياق المنطقي. ذلك لا يعني أن لكل فنان أو فنانة الحرية في ممارسة الفن كما يحلو لهم، و لكن بما يتقبله العقل و المنطق. فنحن مثلا قد نرى شاليه سويسري في أحد الصحاري الجدباء، في هذا الزمن لا يصعب تنفيذ ذلك.. السؤال هنا: ما الهدف من وراء هذه الفوضى؟ و مالمقصود من هذه الإضافة المعمارية إلى رصيد معمار البشرية؟
أحب أن أشير هنا إلى أن المقصد من هذه الفضفضة الغير منتظمة ليس التحبيط من كل من تناول الفن الإسلامي بشكل معاصر في الساحة الفنية، فهنالك الكثير من الفنانين المخضرمين و الجدد ممن يتناولون هذا الموضوع بجمال بالغ أمثال عمران قريشي ومنير شهرودي فارمنفرمايان وعلي أكبر صادقي و حسين بهزاد و غيرهم الكثير. إنما المقصود هنا إلقاء العتب على بعض المحاولات العبثية التي انتشرت مؤخرا بشكل مخيف (بدون ذكر أسماء).و من الجدير بالذكر هنا أن أغلب التجارب الناجحة في تكوين فن إسلامي معاصر أتت لنا من دول تقدر موروث الفن الإسلامي و تنصفه في متاحفها و مناهجها و كل مخرَج ثقافي.
صلاة على أرض حبي لعمران قريشي ٢٠١١ |
ذلك لا يعني أن التجديد مهم و أن تلك الفنون التقليدية التي سبق وأن تناولناها بالتفصيل قد عكست الحصيلة الجمالية و الثقافية لفنانيها وقت ازدهارها، وأنه من الطبيعي جدا أن يقوم الفنان المعاصر بعكس الواقع من خلال الفن. بل الأمل أن نستمد فهمنا للغة الفن من جذورنا الثقافية الثرية و نستكمل تلك العادات بما يتناسب مع مضمونها و يحترم مكاتنها الثقافية.
و في النهاية، فإن ما نراه اليوم من تميع للهويات و طمس للمضامين الثقافية التي يعوّل عليها ما هو إلا انعكاس للحال الذي نحن عليه. فكل شعب يحظى بالفن الذي يستحقه. .